مباحثات رسول الله مع بني شيبان
أما المباحثات الثانية المهمة التي أريد أن أقف عليها، فهي مباحثات رسول الله 


بدايةً، بدأ أبو بكر بفحص القبيلة على المقاييس المطلوبة فسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة. اهتم أبو بكر جدًّا بالأمر فهو الرجل الخبير بالأنساب ويعلم من هؤلاء، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله

قال أبو بكر الصديق

فقال مفروق المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تُغْلَبَ ألف من قلة (ويبدو أن رقم ألف هذا كان رقمًا كبيرًا جدًّا في أعرافهم؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة، ولا ننسى أن المسلمين في بدر كانوا أكثر من ثلاثمائة بقليل، وكان الكافرون ألفًا فقط).
فاستثاره أبو بكر قائلاً: وكيف المنعة فيكم؟ يعني هؤلاء رجال أشداء، أم مجرد عدد.
شعر مفروق أن هذه إهانة، فبدأ صوته يعلو، قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى (أي في الحرب)، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.
كلام في منتهى الحكمة، فهو وإن كان اندفع متحدثًا عن مآثر قومه وعزتهم إلا أنه اندفاع موزون فهو قد نسب النصر لله

ثم إن مفروقًا انتبه إلى كثرة أسئلة الصِّدِّيق، فقال في ذكاء ودراية: لعلك أخو قريش؟ أي لعلك هو أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى أمر جديد يقصد رسول الله



الصديق أراد أن يكسب نقطة في الحوار، قال: أوَقد بلغكم أنه رسول الله؟ قالها وكأنه يريد أن يذكر لهم حقيقة مؤكدة، ولكن مفروقًا انتبه إلى كلمة الصديق فردَّ في سرعة: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. وهذا ذكاء منه؛ لأنه لم يسمع بعدُ من رسول الله


قال رسول الله

ثم إن رسول الله



فكر الرسول


قرأ لهم من سورة الأنعام قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151- 153].
سواء من حلاوة المعاني أو من حلاوة اللغة، شعر أن هذا إعجاز، فأراد أن يعرف أكثر، قال: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟
فقال رسول الله

تأثر مفروق جدًّا بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال (ثم أخذ يذم قريشًا)، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
من الواضح أن مفروقًا أعجبه الإسلام، لكن مفروقًا زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس في يده وحده فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا (وطبعًا الواضح أن هانئ بن قبيصة كان عنده خلفية دينية أوسع، فأحب أن يأخذ رأيه).
وهانئ بن قبيصة -أيضًا- أعجبه الإسلام، وليس عنده أي اعتراض عليه، لكنه كان خائفًا من اتخاذ قرار جريء مثل هذا القرار، فهذا سيترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس مع قريش فقط، بل مع كل العرب؛ فقال: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لَوَهنٌ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزَّلَّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.
هو انسحاب مهذب من هانئ، فهو لم يطعن في كلام رسول الله



المهم أن هانئ بن قبيصة عبر عن رأيه كفرد، وأنا أعتقد أن هذا كان انسحابًا مهذبًا من هانئ. إذن كان مفروق موافقًا وهانئ مترددًا ويميل إلى عدم الموافقة. والآن إذا كان الأمور سيكون فيها حروب سيصبح رأي وزير الحربية في بني شيبان مُهِمًّا وضروريًّا، فمَن وزير الحربية لديهم؟
إنه المثنى بن الحارثة، قال هانئ: وهذا المثنى بن الحارثة شيخنا وصاحب حربنا.
والمثنى بن الحارثة فارس مغوار وعقلية عسكرية فذة، وأصبح بعد عدة سنوات عندما أسلم من كبار الفاتحين الإسلاميين، لكن الآن وهو ما زال كافرًا فإن له حساباتٍ تختلف عن حسابات المؤمنين، قال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة. يعني هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه بدأ يضيف معلوماتٍ جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه عن الوضع العسكري كلام مهم للغاية، وسيجعله في نهاية الأمر يتجه لاتخاذ قرار خطير، وسنرى ماذا قال المثنى: وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْنِ: اليمامة والسماوة (الصَّرَى: هو تجمع المياه، يعني: نحن بين تجمُّعين للمياه وبالتالي تجمُّعين للبشر). قال رسول الله

قال المثنى بن حارثة: أنهار كسرى ومياه العرب. أي تجمع دولة فارس وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كما قلنا كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية في ذلك الوقت، أما الجزيرة العربية ففيها عشرات القبائل. ماذا يريد أن يقول؟ يريد أن يقول: إن إمكانياته محدودة، وسيعرض عرضًا خطيرًا.
قال: فأما ما كان من أنهار كسرى (أي دولة فارس) فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول.
يعني بعبارة أوضح: نحن لا نستطيع إغضاب كسرى فارس، فالخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.
هذا الكلام -لا شك- واقعي جدًّا، كان مفروق يقول منذ قليل: نحن أكثر من ألف؛ لذا فنحن نقدر على العرب كلهم، أما جيش فارس فأكثر من مليونين من الجنود، الفجوة هائلة بالفعل، ومن كانت حساباته مادية فقط فمن المستحيل أن يقف أمام فارس. وفوق هذا فإن توقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام هذه، فاعرفْ يا محمد أنه لو اعترض كسرى فارس فنحن لن ننصرك ضده، انظر ماذا يقول:
وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نُؤْوي محدثًا -لا نخترع شيئًا جديدًا، ولا ندافع عن أحد جاء بشيء جديد- وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. أي أن هذا الإسلام الذي يعبِّد الناس جميعًا لإله واحد، وينزع الحاكمية من أيدي الملوك ويعطيها لله الواحد الأحد، هذا أمر تكرهه الملوك، إلا من رحم اللهُ. وصدق المثنى، فماذا يريد المثنى أن يقول في النهاية؟ في آخر الحديث لخص المثنى كلامه في قرار في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
يا الله! هذا انتصار كبير، لقد وافق المثنى بن حارثة على قبول الإسلام، بل قبول الدفاع عن رسول الله

وفي عرف السياسيين من أهل الدنيا، هذا انتصار هائل. وانظر، رسول الله


والإنسان قد يفكر ويقول: وأين أنا الآن من فارس؟ عندما يأتي وقت فارس نفكر فيها، أما الآن فأمامنا فرصة الدعوة في كل الجزيرة العربية في حماية بني شيبان.
فماذا قال الرسول

لقد رفض الرسول

سبحان الله! لماذا؟ اسمعْ وتأملْ.
لقد قال رسول الله

هي قاعدة عظيمة يعلمنا إياها رسول الله

لن ينصر الإسلام من ينتقي من الإسلام شيئًا ويترك أشياء، فهذا لا يعرف معنى الإسلام، لا يعرف معنى العبودية لله


وما معنى العبودية إذن؟ (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ). يا الله! قاعدة هائلة. ثم قال لهم الرسول

أي أن أمة فارس ستنهار تحت أقدام المسلمين قريبًا، ماذا ستفعلون ساعتها؟ هل ستدخلون الإسلام؟
فقال النعمان بن شريك زعيمهم الرابع: اللهم لك ذا.
لكن لا شك أن السابق المقاتل قبل الفتح ليس كاللاحق المقاتل في زمن التمكين. وسبحان الله لم يمر على كلام الرسول


ثم قرأ رسول الله



ومع فشل تلك المفاوضات إلا أن الرسول

انتقل الرسول



هذا ما سنعرفه في المقال التالي إن شاء الله.
د. راغب السرجاني
المصدر\ موقع قصة الاسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق